هندسة الديون: كيف يُعيد البنك الدولي صياغة الاستعمار؟ - وكالة الحوض للأنباء
  • الرئيسية
  • آراء
  • هندسة الديون: كيف يُعيد البنك الدولي صياغة الاستعمار؟

هندسة الديون: كيف يُعيد البنك الدولي صياغة الاستعمار؟

يُقدَّم تمويل البنك الدولي بوصفه “فرصة تنموية”، غير أن آليات عمله تجعل منه مصيدة اقتصادية معقدة، إذ يتم منح الدول الإفريقية قروضًا بفوائد مرتفعة وشروط مجحفة، ما يؤدي إلى تراكم ...
Image

يُقدَّم تمويل البنك الدولي بوصفه “فرصة تنموية”، غير أن آليات عمله تجعل منه مصيدة اقتصادية معقدة، إذ يتم منح الدول الإفريقية قروضًا بفوائد مرتفعة وشروط مجحفة، ما يؤدي إلى تراكم الديون بشكل يجعلها غير قابلة للسداد ضمن الأطر الزمنية المحددة. وهنا تتجلى ديناميكية السيطرة المالية، حيث تُضطر الدول إلى إعادة التفاوض بشأن ديونها عبر استدانة جديدة، ما يخلق دورة مغلقة من الاقتراض لإطفاء التزامات سابقة، في عملية تُشبه “تدوير الديون” الذي يُعزز التبعية المالية ولا يوفر مخرجًا حقيقيًا.

بل الأكثر خطورة أن هذه القروض مشروطة بإصلاحات هيكلية قسرية تفرض على الدول تفكيك اقتصاداتها الوطنية، وفتح أسواقها دون ضوابط، وتقليص الإنفاق الحكومي على الخدمات الأساسية. وهكذا، بدل أن تساهم هذه القروض في تحسين معيشة المواطنين، فإنها تُستخدم كأداة لإعادة هيكلة الاقتصادات الإفريقية بما يتناسب مع مصالح المؤسسات المالية الدولية والنخب السياسية المرتبطة بها.

مشاريع غير مكتملة وفساد مستشري: الوجه الآخر للقروض

يُروّج البنك الدولي لتمويلاته باعتبارها محركًا رئيسيًا للتنمية في إفريقيا، لكنه يغض الطرف عن أن جزءًا كبيرًا من هذه القروض لا يُترجم إلى مشاريع حقيقية، بل يضيع في متاهات الفساد وسوء الإدارة، مما يؤدي إلى انهيار البنية التحتية حتى قبل اكتمالها.


أمثلة حية على الفشل المؤسسي:
1. سد باتوا في الكونغو الديمقراطية
حصلت الحكومة الكونغولية على قرض ضخم لإنشاء سد كهرومائي يهدف إلى توفير الطاقة لملايين المواطنين. ومع ذلك، وبعد سنوات من بدء المشروع، لم يتم إنجاز سوى هياكل خرسانية غير مكتملة، بينما اختفى جزء كبير من التمويل في صفقات مشبوهة. النتيجة؟ البلاد لا تزال تعاني من نقص حاد في الكهرباء، لكنها مُلزمة بسداد ديون هذا المشروع الوهمي لعقود قادمة.
2. مشاريع البنية التحتية في كينيا
في كينيا، تم منح قرض بقيمة 300 مليون دولار لإنشاء شبكة طرق حديثة، إلا أن المشروع تعرض للاحتيال عبر التضخم المصطنع للتكاليف، حيث تم تسليم عقود لشركات لا تمتلك الكفاءة، ما أدى إلى تنفيذ طرق تنهار بعد بضعة أعوام، بينما تتحمل الدولة كلفة التصليحات من ميزانيتها المنهكة.
3. قطاع الزراعة في غانا
في محاولة لتعزيز الإنتاج الزراعي، حصلت غانا على تمويل من البنك الدولي لمشروع زراعي واسع النطاق، لكن التوزيع غير العادل للموارد، وغياب التخطيط المدروس، جعلا المشروع غير مستدام. النتيجة؟ لم يتحقق الاكتفاء الغذائي، وبدلًا من دعم الفلاحين، أصبحوا مثقلين بالضرائب لتعويض القروض المهدورة.

الديون كأداة لإعادة إنتاج الفقر

أحد أخطر أوجه تدخل البنك الدولي في إفريقيا هو أنه لا يكتفي بتحميل الدول أعباء مالية ضخمة، بل يفرض عليها سياسات تقشفية تجعلها غير قادرة على الاستثمار في القطاعات الحيوية، مما يؤدي إلى تراجع مستويات التعليم، انهيار أنظمة الصحة العامة، وتفاقم معدلات البطالة.

إفريقيا في قبضة الديون: أمثلة من الواقع
• نيجيريا، التي اقترضت مليارات الدولارات منذ السبعينيات، لا تزال تدفع فوائد قروض قديمة، رغم أن العائد الاقتصادي لهذه القروض لم ينعكس على حياة السكان.

زامبيا، اضطرت إلى بيع ثرواتها الطبيعية بأسعار زهيدة للشركات الأجنبية لسداد ديون البنك الدولي، ما جعلها رهينة للاقتصاد الريعي بدلًا من بناء قاعدة إنتاجية محلية.
• السودان، ظل مثقلًا بديونه لعقود، مما أفقده القدرة على الاستثمار في الصحة والتعليم، وساهم في تدهور أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية
.

سياسات التقشف وخصخصة الخدمات: خنق الاقتصادات الوطنية

إحدى أخطر الشروط التي يفرضها البنك الدولي على الدول المقترضة هي سياسات التقشف القاسية، والتي تعني خفض الإنفاق على التعليم، الصحة، والبنية التحتية، وخصخصة القطاعات العامة، مما يفتح الباب أمام الشركات الأجنبية للاستحواذ على الموارد الوطنية.

هذا التوجه يجعل الحكومات عاجزة عن دعم مواطنيها، ويؤدي إلى خلق فجوة اجتماعية ضخمة، حيث يصبح المواطن الإفريقي غير قادر على تحمل تكاليف العلاج والتعليم، بينما تتزايد أرباح الشركات الأجنبية التي تستغل هذه القطاعات.

إفريقيا بين التبعية الاقتصادية والاستغلال الممنهج

إن النتيجة النهائية لهذه الديناميكية المعقدة هي أن القارة الإفريقية لا تملك قرارها الاقتصادي المستقل، بل تجد نفسها مجبرة على اتباع سياسات يُمليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ما يجعلها عالقة في دائرة التبعية المالية والاستغلال الممنهج.

هل هناك مخرج؟

بدلًا من الاستمرار في هذا النموذج المدمر، تحتاج الدول الإفريقية إلى تبني استراتيجيات بديلة تضمن تحررها من الهيمنة المالية للبنك الدولي، مثل:
1. تعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول الإفريقية، لتقليل الحاجة إلى التمويل الخارجي.
2. تشجيع الصناعات المحلية بدلًا من الاعتماد على تصدير المواد الخام.
3. إصلاح أنظمة الحكم والحد من الفساد لضمان أن أي تمويل يتم استثماره في مشاريع تنموية حقيقية.
4. البحث عن مصادر تمويل بديلة أو إنشاء صناديق سيادية تعتمد على الموارد الطبيعية.

إن تجربة القروض الإفريقية مع البنك الدولي أثبتت أنها ليست مجرد مسألة تمويل، بل هي آلية لإعادة تشكيل موازين القوى الاقتصادية لصالح المؤسسات المالية الكبرى، حيث يتم إغراق القارة في ديون لا تنتهي، بينما تتبخر الأموال دون أن تترك أثرًا ملموسًا. وإن لم تتخذ إفريقيا موقفًا حاسمًا تجاه هذا النموذج، فستظل في حالة استنزاف مستمر، تُراكم فيه الديون بدلًا من تحقيق التنمية الحقيقية.

لقد آن الأوان لأن تكسر إفريقيا قيد التبعية المالية، وتبني نموذجًا اقتصاديًا قائمًا على الاستقلالية والسيادة، لأن استمرار الاعتماد على البنك الدولي لن يكون سوى إعادة إنتاج للفقر والتخلف تحت غطاء التنمية الموعودة.

بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي

  اقرأ المزيد على الرابط : https://www.elhodh.info/


شائع

اترك تعليقك