تعد موريتانيا، التي تمتلك ثروة طبيعية هائلة، مرشحة لأن تكون بيئة خصبة للتطور الاقتصادي والاجتماعي. ومع ذلك، فإنها تواجه أزمة هيكلية عميقة، حيث تحول العمل الذي كان من المفترض أن يكون وسيلة للارتقاء الاجتماعي إلى أداة للاستغلال الاقتصادي، مما يورط أغلب السكان في دائرة من الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية، مع تفاقم الفوارق الطبقية. هذه الوضعية تنبع من نموذج اقتصادي مختل، وغياب آليات فعالة لحماية حقوق العمال، وتركيز الثروات بين أيدي قلة من النخب المهيمنة.
في ظل ولاية الرئيس محمد الشيخ الغزواني، وُضعت آمال عريضة على تحسين أوضاع المواطنين، خصوصًا الطبقات العاملة، حيث أظهر الرئيس التزامًا بتحقيق توزيع أكثر عدالة للثروات وتعزيز آليات الحماية الاجتماعية. ولكن تبقى التحديات الهيكلية قائمة، وتتطلب الإصلاحات المستعجلة والطموحة لتفادي تعميق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية وتفاقم الأزمات الاقتصادية.
فشل المعارضة والنضالات النقابية: التواطؤ مع السلطة الحاكمة
تتمثل الهزيمة العميقة للمعارضة السياسية في الانحسار المستمر للخطاب السياسي وفقدان الفاعلية، حيث أدى التقارب التدريجي بين قادة المعارضة والسلطة الحاكمة إلى تبني سياسات تواطؤية تتناقض مع المبادئ التي كانت تؤطر نضالهم في السابق. هذا التحول إلى التوافق مع السلطة أفضى إلى اختفاء تدريجي للأهداف التحررية للمعارضة التي كانت تسعى، في بداياتها، إلى مواجهة الهياكل القائمة وفضح ممارسات السلطة. في الوقت نفسه، لم تكن النضالات النقابية بمعزل عن هذا الانحراف، إذ أن العديد من قادتها اختاروا الانحياز الضمني إلى السلطة، وتفاوضوا خلف الأبواب المغلقة للحصول على مكاسب شخصية على حساب حقوق العمال الأساسية. لقد سمح هذا التراجع في مواقف النقابات لأرباب العمل بتعزيز قبضتهم على سوق العمل، متحكمين في شروط العمل، وفرضوا قوانين ونظم تساهم في تآكل حقوق العمال، دون مقاومة تذكر.
تآكل القدرة الشرائية أمام التضخم الهيكلي
يؤدي الركود المستمر في الأجور، إلى جانب التضخم المفرط، إلى خلق حالة من عدم التوازن الاقتصادي التي تصبح غير قابلة للتحمل بالنسبة للعمال. ويرجع ذلك بشكل رئيسي إلى غياب آليات ربط الأجور بارتفاع الأسعار، ما يزيد من تفاقم الوضع. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي تدهور العملة إلى زيادة معدلات الفقر، خصوصًا في صفوف الطبقات العاملة. تتفاقم هذه المشكلة في الاقتصادات التي بدأت تتأثر بشكل متزايد بالدولرة الجزئية، حيث أصبح لتقلبات العملة تأثير مباشر على تكلفة السلع الأساسية، مما يزيد معاناة المواطنين.
سوق العمل المشوه بسبب تدفق العمالة الأجنبية
إن تحرير سوق العمل وتدفق أعداد ضخمة من العمالة الأجنبية قد شكل ضغطًا إضافيًا على الأجور وظروف العمل، حيث استغلت الشركات والأسر هذه العمالة الرخيصة بشكل مفرط، مما ساهم في تعزيز البطالة الهيكلية للموريتانيين وأسهم في إضعاف النسيج الاقتصادي المحلي. هذا الوضع لا يشكل فقط تهديدًا لفرص العمل المتاحة للمواطنين الموريتانيين، بل يساهم أيضًا في تدمير الأسس الاقتصادية المحلية عبر تشويه سوق العمل.
انهيار التماسك الاجتماعي: تآكل القيم التقليدية
لطالما كانت موريتانيا، من خلال نموذجها الاجتماعي القائم على التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع، تمثل نموذجًا متماسكًا، حيث كانت الروابط الأسرية هي الضامن الأساسي للرعاية الاجتماعية، خصوصًا للفئات الضعيفة. لكن هذه القيم التقليدية تواجه تحديات جسيمة نتيجة للضغوط الاقتصادية المتزايدة. فبينما كان العامل الواحد قادرًا في الماضي على إعالة عدد كبير من أفراد أسرته، أصبح اليوم عاجزًا عن تلبية احتياجات أسرته المباشرة، مما دفع الكثيرين إلى البحث عن وسائل غير قانونية للبقاء، بما يتناقض مع القيم الاجتماعية المعروفة.
وفي المدن الكبرى مثل نواكشوط ونواذيبو، التي كانت في السابق تمثل مراكز حضرية مع تماسك اجتماعي فاعل، بدأنا نلاحظ ظهور بؤر من الجريمة المنظمة بمعدلات غير مسبوقة. من السرقات والاعتداءات الليلية وصولًا إلى حالات القتل المتزايدة، لم يعد هذا الأمر قاصرًا على المدن الكبرى فقط، بل بدأ ينتشر أيضًا في المناطق الريفية النائية التي كانت تعتبر محصنة تقليديًا ضد مثل هذه الظواهر. على سبيل المثال، تمثل مدينة النعمه، الواقعة على بُعد أكثر من 1000 كيلومتر من العاصمة، مثالًا صارخًا على هذه التحولات الجذرية في حياة السكان المحليين، حيث تزايدت ظواهر العنف والجريمة بفعل الفقر المتفشي، الذي يدفع الشباب إلى اليأس واتخاذ قرارات خطيرة، بما في ذلك التجارة في المخدرات التي دخلت إلى المنطقة عن طريق شبكات دولية على الحدود مع مالي.
خطر الانفجار الاجتماعي الوشيك
إذا لم تُتخذ إجراءات إصلاحية عاجلة، فإن موريتانيا قد تتجه نحو انفجار اجتماعي حتمي. إن الأزمة الحالية تشهد اتساعًا متسارعًا في الفجوة بين طبقة النخبة المتنعمّة وبين الطبقات العاملة في حالة من الضيق والفقر المتزايد. غياب طبقة وسطى فعالة وضعف آليات التضامن التقليدي يجعل المستقبل محفوفًا بعدم اليقين. وفي حال عدم اتخاذ إجراءات استجابة فورية ومنسقة، فإن البلاد قد تواجه خطر الانزلاق إلى دوامة من التحديات، مما يهدد استقرارها الاجتماعي ويعرقل التنمية الاقتصادية على المدى الطويل.
إصلاحات هيكلية عاجلة لعكس الاتجاه
في مواجهة هذا الوضع، بات من الضروري إجراء إصلاحات هيكلية جذرية لاستعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي، وذلك من خلال:
- وضع آليات لربط الأجور بالتضخم لضمان استقرار القدرة الشرائية.
- إنشاء صندوق تأمين ضد البطالة يتم تمويله من مساهمات أصحاب العمل .
- وضع تنظيم صارم لعقود العمل للحد من استغلال أرباب العمل وضمان حماية حقوق الموظفين.
- تعزيز التصنيع المحلي للاستفادة من الموارد الأولية وتقليل الاعتماد على الواردات، مما يوفر فرص عمل مستدامة.
- الاستفادة من عائدات الغاز الطبيعي لضمان توفير الطاقة اللازمة للاقتصاد المحلي، مما يسهم في تحسين الصناعة المحلية.
- تطبيق ضوابط صارمة على توظيف العمال الأجانب، لضمان ألا يتم استغلالهم على حساب العمال المحليين.
- تعزيز التشريعات العمالية والنقابية لضمان توازن بين حقوق أصحاب العمل وحقوق الموظفين، مع ضمان توزيع أكثر عدالة للثروات المنتجة.
لن تتمكن موريتانيا من تحقيق ازدهار دائم ما لم يتم إصلاح النظام الاقتصادي الحالي، الذي يعتمد على استغلال العاملة المحلية وإضعافها، مما يعمق حلقة الفقر واللامساواة. كانت فترة ولاية الرئيس محمد الشيخ الغزواني قد أثارت تطلعات كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بتحسين وضع العمال وتنفيذ إصلاحات اجتماعية شاملة. ومن الضروري الآن إقامة نظام حماية اجتماعية حقيقي، وضمان أجر عادل يتناسب مع قيمة العمل، بالإضافة إلى إرساء ديناميكية اقتصادية قادرة على تحقيق نمو شامل وبناء طبقة وسطى قوية ومستدامة. إذا لم تتم هذه الإصلاحات، فإن موريتانيا قد تغرق في المزيد من اللامساواة والفقر الهيكلي، مما يهدد بالقضاء على أي آمال في تنمية مستدامة وشاملة.
بقلم المهندس الحاج سيدي ابراهيم سيدي يحي
اقرأ المزيد على الرابط التالي: https://www.elhodh.info/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%8a%d9%8a%d9%86%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a5%d8%b1%d8%ab-%d9%85%d9%86-%d8%a3%d8%ac%d9%84-%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d9%88/